19 أبريل، 2025 11:13 م

البركة في حياتنا: نماذج واقعية !

13 نوفمبر، 2022

﷽، الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال تعالى:”ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض”، في هذه الآية أشارة إلى أهمية البركة، وأن وجودها مرهون بأمرين: الإيمان والتقوى، فمتى ما وجدا وجدت.

والبركة قد لا ترى بالعين المجردة، ولا تقاس بالأدوات والوسائل الحديثة، فهي شعور معنوي، يحس به الإنسان بين جوانحه، وطمأنينة في نفسه، ونماء يلمسه في كل شيء في حياته: سعة في الوقت، وزيادة في الممتلكات، وقوة في العمل والنشاط، وكثرة يجدها الإنسان في كل شيء بين يديه، فمن أوتي البركة فقد أوتي حظاً عظيماً.

وكما أن البركة علقت بالإيمان والتقوى، فالذنوب والمعاصي سبب لنزعها ومحقها واستئصالها، قال الله تعالى:”يمحق الله الربا”، أي يستأصله ويمحقه، ويذهب ببركته، نسأل الله العافية.

“وكثيراً ما سمعنا حديث الآباء والأجداد عن البركة، في زمنهم الجميل، وتأوهاتهم أسفاً على ذلك الحال، وذكرهم لنماذج تلك البركة في الأجسام والأبدان من حيث القوة والصلابة، وفي العلم من حيث نفعه وانتشاره، وكذلك البركة في المال والولد والزرع والضرع والأوقات، وليس سر البركة التي أنعم الله تعالى بها على أجيال السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان خافيا على كل ذي بصيرة وعلم، كما أن أسباب قلة البركة التي يعاني منها الكثير من أبناء زماننا هذا باتت أشد وضوحا من الشمس في رابعة النهار”.*

ولتأكيد وجود هذه البركة عملياً، أذكر قصة حقيقية، معبرة ومؤثرة في آن واحد، لها علاقة بما نحن بصدده، سمعتها قبل أكثر من ثلاثين سنة، إذ تعرفت على مدير عام شركة تجارية كبرى “ع” كانت حديثة التأسيس، وكان هذا الرجل قبل ذلك موظفاً مالياً كبيراً في أحد البنوك المشهورة، التي اندمجت لاحقاً مع بنوك أخرى، واختفى اسمها من السوق، استقال هذا الخبير من البنك ليعمل مديراً لهذه الشركة، في تجربة حافلة بالجد والإنجاز، لكن ثمرة تلك التجربة بعد ذلك كانت أقل بكثير مما كان يتوقعه الأخ “ع”.

فسألته عن سبب استقالته، فقال لي إنه بمجرد أن تخرج متخصصاً في المجال المالي والإداري عمل في هذا البنك، وترقى حتى أصبح الرجل الثالث فيه، لكن هذا العمل لم يلق رضاً وترحيباً من أسرته، لا سيما والديه، إذ كانوا يعارضونه وينصحونه، ويخوفونه من المال الحرام، ويذكرونه ببركة المال الحلال وإن قل، وهكذا دواليك.

قال “ع”: لم أكن ألقي بالاً لما يقولونه، بل كنت أسخر من هذا الكلام سراً وجهراً، وكنت مقتنعاً بأن هذا نوع من التخلف عن الركب الحضاري القائم على الاقتصاد، والاقتصاد قائم على الأرقام والحسابات، فلا يمكن – من وجهة نظره – أن يكون واحدٌ زائداً واحداً أن تساوي عشرة، واستغرب من هذه العقول المتخلفة التي تحول بيننا وبين السير نحو التقدم والتطور..إلى آخره.

يقول “ع”: استمر هذا الصراع النفسي والعائلي مدة طويلة، تقارب العشرين سنة، وصرت من كبار الموظفين، وراتبي من أضخم رواتب قيادات البنك إياه، وأسرتي لم تتزحزح عن رأيها وأنا كذلك، حتى قدر لي ذات يوم أن صليت المغرب في مسجد ما، فوعظنا رجل موعظةً بليغةً، فإذا هو يتكلم عن البركة، وإذا الكلام من تأثيره كأنه وحي، وإذا العبارات من شدة تأثيرها كأنها لم توجه إلا إلي، فخرجت شارداً ذهني، فاقداً توازني، لا أفكر إلا في كلام ذلك الواعظ، رجلاي لا تحملاني من التأثر، وبقيت مدة على هذا النحو انتهت بتقديم استقالتي، فلقيت معارضة شديدة من مديري البنك، ومن مجلس إدارته، حتى زارني بعضهم في البيت يكررون مطالبتهم بالاستمرار، ويلحون علي بالعدول عن استقالتي، لكن ذلك لم يزدني إلا عزيمة وإصراراً، وفي النهاية كان لي ما أردت..والحمدلله.

وهنا سألته هل وجدت البركة التي تنشد؟ فقال لي نعم وجدتها.! وجدتها حقيقة ملموسة، معنوياً ومادياً، وجدتها بالأرقام والحسابات، واستأنف قائلاً: كان راتبي كذا وكذا، وذكر مبلغاً ضخماً، وهذا الراتب دون الحوافز، ومع هذا فإنه لا يكفيني إلا نحو عشرين يوماً أو تزيد قليلاً، وأضطر بعدها للاقتراض نهاية كل شهر، وها أنذا أعمل مديراً عاماً في هذا الشركة بخمْس ذاك الراتب، ومع هذا أصرف على عائلتي، وأتصدق وأدخر، إنه أمر عجيب، لولا أنني المجرب لما صدقت، إنها البركة، إنها الزيادة والنماء، لقد وجدتها في المال، ووجدتها في كل شيء بين يدي، في الأهل والولد، والراحة والصحة، وكل الأحوال.

حين انتهى “ع” من قصته تذكرت زميلي “س” كان يعمل مدير فرع لبنك آخر، وكان بيني وبين “س” علاقة وثيقة استمرت إلى اليوم والحمدلله، فلقيته بعد حديث الصديق “ع”، وقصصت عليه قصته، فتأثر جداً وقال لي: كأنك تتحدث عني، إني أعيش ذات الحالة، في توتر وقلق، في تعب وعدم استقرار، فمن حين تركت وظيفتي الحكومية ذات الراتب القليل، وراتبي الكبير لم يبارك لي فيه، لا يكفيني أبداً، فأنا كما صاحبك أقترض واستدين، حتى بلغت ديوني كذا وكذا، ويبدو أنني سأحذو حذوه، لعلي أجد ما وجد من الخير والبركة، وتفرقنا على هذا.

مضت مدة فإذا هو يتصل بي يبشرني انه اتخذ قراره، وعمل في شركة براتب لا يقارن براتب البنك، لكنه وجد البركة، وأن الله عوضه خيراً، وبارك له فيما أعطاه، مردداً: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً..والحمدلله على توفيقه.

والنماذج بلا شك كثيرة جداً، ولكني ذكرت أنموذجين مضيئين عرفتهما شخصياً واستمعت إلى قصتيهما منهما كفاحاً، ولا يزالا – حفظهما الله – على قيد الحياة، ولولا خشية إحراجهما لذكرت اسميهما هنا ليزداد القاريء يقيناً من أن البركة فضل من الله، من وجدها وجد الخير والتوفيق..نسأل الله البركة والتوفيق بمنه وكرمه.

“وفي سيرة الإمام النووي – وأمثاله من أئمة الأمة – ما يؤكد تلك الحقيقة الساطعة المتعلقة بمدى أثر البركة في حياة أي مسلم، فقد ألف هذا الإمام الفذ من الكتب والمؤلفات خلال سنوات عمره، التي لم تتجاوز النيف والأربعين عاما ما لا يقدر عليه العشرات ممن أوتوا أضعاف عمره رحمه الله، كما أن القبول الذي كتبه الله تعالى لمؤلفات هذا العالم الجليل – كالأربعين النووية والأذكار ورياض الصالحين وغيرها – رغم وجود العشرات من الكتب والمؤلفات في بابها لغيره من العلماء – ما يؤكد أثر البركة، حين يتفضل الله تعالى بها على عبد من عباده”..رحمه الله

اللهم بارك لنا في أقوالنا وأفعالنا، وأزواجنا، وأبنائنا، وأموالنا، وجميع ما رزقتنا، فإنه لا غنى لنا عن بركتك سبحانك، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين.

 

تدوين: محمد بن علي الوشلي الحسني. 25 ذي القعدة 1441 هـ.

Share on twitter
Share on telegram
Share on whatsapp
Share on facebook