23 يناير، 2025 2:12 ص

يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئا.

13 نوفمبر، 2022

الشيخ محمد الوشلي

﷽ ، الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يحيد عنها، فيقع في عبودية غير الله ولا بد، والإنسان لا ينفك عن العبودية؛ لأنه كائن حي، جبل على حاجات ومطامع وأهواء، فإما أن يطلب حاجاته تلك ورغباته من الله، أو تستولي عليه تلك الحاجات فيعبدها، أو يعبد غيره من العالمين؛ لكي يحققوا له ذلك، وخير له أن يتحرر من المخلوقات والحاجات، ويرنو قلبه إلى الله، لتأتيه من معبوده العظيم دون ذل وخنوع لغير الله جزاءً من ربك وعطاءً وفضلاً.

فالتوحيد إذن “يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين، والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متعبدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقق نجاحه”.

وبهذه المناسبة أورد قصة مفيدة في هذا الباب حيث ذكر لي مرة أحد مشايخنا الذين أفدنا منهم حفظه الله – وهو من بلد عربي شقيق – أنه وعائلته كانوا بتوفيق الله من بيئة سنية، وإن كان الأمر لا يخلو من تأثير بعض الطرق الصوفية، إذ بلده مبتلاة بانتشار الطرق الصوفية فيها بشكل كبير، ولها تأثير على ذلك المجتمع، وقل أن تجد من لا ينتسب إلى طريقة من تلك الطرق، ومن هذا التأثير أن والدته رحمها الله كانت تنادي يا “محمد”، تعني “النبي” ﷺ، تطلب منه النجدة في بعض الأحداث أو المناسبات.

يقول الشيخ أنه لما رأى هذا في والدته، حرص على تصحيح ذلك بطرق مناسبة، وحاول مرات عديدة أن يثنيها عن ذاك الفعل المحرم، وقال لها بأنه لا يجوز، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يضر ولا ينفع، إنما الضار النافع هو الله ﷻ لا غير، فهو المستحق وحده للعبادة: من سؤال ودعاء ورجاء ونحو ذلك، لكن محاولاته باءت بالفشل، إذ كانت رحمها الله تأبى ذلك، وترد عليه بشدة، وترى أنه لا يعي ولا يفهم هذا الأمر، وكأنه أكبر من فهمه، كعادة الكبار إذا تشربوا بعض العقائد والأفكار الخاطئة منذ الصغر.

قال حفظه الله: “حدثت والدتي كثيراً عن التوحيد، وجئتها بحجج متنوعة، وأساليب مختلفة، ولم تكن تسمع مني، حتى إنها يوماً ما غضبت مني غضبا شديداً لأني لم أذهب لاحتفال الطائفة الصوفية التي ننتمي إليها، وشق ذلك على نفسي كثيراً – أن تغضب علي أمي – ثم رضيَت بحمد الله بعد أن توسّط عندها أحد أقاربنا السُّنييّن، ومرّت الأيام، وتركت أمي دعاء غير الله، فقلت لها يوما: يا أمي كنت حدّثتك كثيرا عن هذا، فما الذي أقنعك بالتوقف عن دعاء غير الله؟، فقالت: عندما سمعت القصة أن النبي ﷺ قال لابنته فاطمة: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، فقلت: هذه فاطمة التي نتعلق نحن بها، لا يغني عنها النبي ﷺ شيئا!، فكيف بنا نحن؟، وصارت والدتي تستغفر من ذلك الذنب كثيرا، ومنّ الله عليها بحج بيته الكريم، فكنت أرى من عبادتها وصدقتها شيئا مُذهلا”، وكأنها كانت ترجو من ذلك الجلد في العبادة، والإكثار من الصدقة أن يكفر الله عنها ذلك الذنب العظيم بعد اقتنعت ببطلانه وتركته إلى غير رجعة..رحمها الله

ثم دارت الأيام، فقررت أن أسافر إلى بلد عربي آخر، غير البلد الذي ينتسب إليه الشيخ، وتعرفت على بعض طلاب العلم والدعاة والمربين هناك، فإذا بهم يدعونني لإلقاء كلمة على مجموعة من الشباب عددهم نحو 300 شاب، وأعمارهم تتراوح ما بين 16 و 22 عاماً، وكانوا جميعاً من بيئة تأثرت بالأفكار الشيعية التي تؤسس للتعلق بالمخلوقات، الأحياء منهم والأموات، من كان منهم في القبور، ومن كان منهم من لا يزال في القصور.

ذهبت إليهم دون استعداد، إذ الدعوة كانت مفاجأة، ولم يكن بيني وبين اللقاء بهم سوى نصف ساعة، ولما وصلت إلى مكان اللقاء، طلب المنظمون مني تغيير هيئتي السعودية، إذ تلك البيئة قد شوهت نظرتها عن دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، واستأذونني أيضاً أن يعلنوا أنني من سلالة النبي ﷺ، لكي تتهيأ النفوس لسماع الموعظة التي ستلقى عليهم.

وافقت لهم على ذلك، وأثناء هذه الاستعدادات كنت أفكر فيما هو أنسب لهؤلاء الشباب من الكلام، إذ اللقاء بهم جاء على غير ميعاد، فتذكرت موقف شيخنا حفظه الله مع والدته، ونداءات النبي المصطفي ﷺ لعشيرته الأقربين، فقررت أن تكون الكلمة بعنوان: “يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً”، إذ هذا نداء شرعي من الرسول الخاتم ﷺ للأقربين من عشيرته، لا سيما بنته رضي الله عنها، التي هي بضعة منه، وهي أيضا سيدة نساء أهل الجنة، رضي الله عنها وأرضاها.

هذا النداء من النبي ﷺ لابنته فاطمة سيدة نساء العالمين:”يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئا”، نداء عظيم يرتجف له القلب، وتهتز له الأركان، جاء امتثالاً منه ﷺ لأمره ﷻ في الآية:”وأنذر عشيرتك الأقربين”، وجاءت هذه الآية بعد آية هي أعظم منها تحذيراً حيث يأمر الله ﷻ نبيه ﷺ بقوله:”فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين”، فإذا كان هذا التحذير للنبي ﷺ أن يعبد غير الله، فكيف بمن هو دونه من المخلوقات، فكيف إذا تعلق هذا “الدون” بمن هو مثله أو دونه أو أضعف منه: من بشر أو شجر أو حجر أو قبر أو قصر..إلى آخره.

وهذا أيضاً سيد الخلق ﷺ يعلنها مدوية على الملأ، من أنه لا يضر ولا ينفع، حتى لأقرب الناس إليه: بنته سيدة نساء العالمين، إذ التوحيد جاء ليحرر العباد من كل تعلق بالمخلوقات، بل جاء يأمرهم أن يتعلقوا فقط بربهم ﷻ، وليعبدوه وحده، وليسألوه وحده، إذ المخلوقات كلها: بشر وشجر وحجر مربوبة لهذا الرب العظيم سبحانه.

فما بال بعض الناس اليوم نسوا هذه الحقيقة، حقيقة تجريد التوحيد لله، وذلت نفوسهم لغيره، وصاروا عبيداً لغير الله، أياً كان اسمه أو رسمه أو وصفه: ملك أو رئيس أو سيد أو آية أو حبيب، ونحو ذلك من الألقاب، لماذا قبلوا هذه العبودية للمخلوقات، وهم يدركون أنها لا تضر ولا تنفع، وغفلوا عن المستحق للعبادة، الذي أرسل هذا الرسول ﷺ لينقذهم من هذه العبودية في الدنيا، ومن النار في الآخرة، فها هو ﷺ يقول لبنته الطاهرة، سيدة نساء أهل الجنة:”أنقذي نفسك من النار”.

لقد فهم ذلك الجيل الفريد – جيل الصحابة – الذي رباه ﷺ على التوحيد الخالص، وامتلأ بهذا المفهوم، وتشربه، وتشبع به، فلم يك بعد ذلك ينحني لأحد، ولا يذل لأحد، حتى إن ربعي بن عامر رضي الله عنه الله قال قولته المشهورة وهو يقف مرفوع الرأس أمام القائد الفارسي:”جئنا لنخرجكم من عبادة العبادة إلى عباد رب العباد”.

وفهم ذلك الجيل أن التوحيد الخالص لا يتعارض مع مبدأ طاعة المخلوق في الترتيبات الدينية والدنيوية، إذ هذه طاعة مصلحية لكي تقوم حياتهم على النظام، ولكي يستقيم الأمن، ولتقام وظائف الدين، وأدركوا أنها طاعة مقيدة فيما شرعه رب العالمين، “إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.

وأدرك أيضاً ذلك الجيل أن التوحيد الخالص لا يتعارض مع مبدأ الأدب، إذ الجفاء ليس من الدين، والأدب من جملة ما شرعه الله بين العباد: “وقولوا للناس حسناً”، “وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة”، “رحماء بينهم”..إلى آخر الآيات والأحاديث التي جاءت بإعلان ميثاق الأخلاق مع الخلق، والتأدب معهم، والتواضع لهم، ورحمتهم، والبر بهم، ومعاملتهم بأحسن الأخلاق، حتى قال ﷺ:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، ولكن هذا مضبوط بعدم الخضوع للبشر، وعدم الخنوع لهم، فضلاً عن سؤالهم الضر والنفع.

 

وأيضاً هذا النداء العظيم يدل على أن المعيار الحقيقي هو اتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة قولا وعملا واعتقادا، أما الأنساب فإنها لا تجدي ولا تنفع، كما قال ﷺ:”من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”. وقال:”يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا”، وهكذا قال لعمه العباس، وعمته صفية، وابنته فاطمة، ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء رضي الله عنهم، وإن احترام قرابة الرسول ﷺ وتقديرهم لا تعني طاعتهم طاعة مطلقة، فضلاً عن الخضوع لهم، وسؤالهم ما لا يملكه إلا الله ﷻ.

 

وطالما كان ذلك الجيل القدوة قد فهم هذا وأدركه، فيحسن بنا أن نقتدي به، ونتبع طريقه، ونحذو حذوه، فنقدر ولا نقدس، ونتواضع ولا نخنع، ونتواصى بالعزة دون كبر، وبالأدب دون مذلة، وأن يدرك الإنسان أن له كرامة تأبى عليه أن يكون عبداً للمخلوق، وتمنعه من أن يكون مستكبراً عليهم في نفس الوقت، وأن هذا هو الذي ميز الإنسان عن بقية المخلوقات، إذ جعل الله كرامته وحريته مناط تكليفه بعبادة الله وحده، إذ العبودية تعني الذلة والخضوع لله وحده، وتعني الحرية من عبودية غيره من المخلوقات لا العكس.

وباب التوحيد هو أصل الدين. وركنه الأعظم، وهو الفقه الأكبر، وأساس الملة المحمدية، فمن اهتم به، وفهمه والتزمه، حصل له الأمن التام، والهداية المطلقة.

والغرض هنا التنبيه لأهميته، والإشارة إلى فضله، وآثاره، وأن النجاة معلقة به، من خلال القصة، نسأل الله تعالى أن يحعلنا وإياكم من المسلمين الموحدين، المخلصين لله في العبادة، المتبعين له في حكمه وشرعه، إنه جواد كريم. وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين.

تدوين: محمد بن علي الوشلي الحسني. 1 ذي الحجة 1441هـ

Share on twitter
Share on telegram
Share on whatsapp
Share on facebook