توفي هذا مساء اليوم السبت 13/ذي القعدة 1441هـ، الموافق 4/يوليو/2020 م معالي د منصور ابن ابراهيم التركي مدير جامعة الملك سعود الأسبق رحمه الله، وأفسح له في قبره، ووسع له في جناته، فقد كان من الشخصيات الإدارية المعروفة، والخبرات ذات السمعة المتميزة، فقد تولى الجامعة في أهم مراحلها، وانجز في عهده بناء مجمع الجامعة الحالي وكلياته، إذ كانت الجامعة قبل ذلك عبارة عن مبان متناثرة في بعض أحياء مدينة الرياض.
كنت طالباً في الجامعة حين تعين معاليه رحمه الله، ورأينا أثره على مسيرة الجامعة، كما لمسنا جاذبيته القوية في تسيير دفة العمل في جوانبها العلمية والإدارية والخدمية، وكانت شخصيته حديث أساتذة الجامعة ومنسوبيها من حيث قيادته، ومن حيث صفاته الشخصية: من ثقة في النفس، وقدرة على اتخاذ القرار، وبساطة في التعامل، ورغبة في مساعدة الناس وخدمتهم .
ولكني شخصياً رأيت هذه الصفات منه مباشرة، ولمستها حين تعاملت معه في مواقف عديدة، أذكر في هذه العجالة واحداً منها للتدليل على ما كانت تتميز به هذه الشخصية الفذة، إذ في ذروة نشاط الجامعة قدر لي أن أتولى الإدارة التنفيذية لصندوق طلاب بالجامعة، وذلك عام 1406هـ، وبإشراف مباشر من عميد شؤون الطلاب أنذاك د عبداللطيف الحشاش يرحمه الله، وبالطبع كان د منصور يرحمه الله هو المرجع الإداري الأعلى للصندوق، فأفدنا من هذا الجو المفعم بالإنجازات، وانطلقنا في العمل، وافتتحنا المشاريع، وتوسعنا في خدمات الطلاب.
ثار بسبب نشاطنا وإنجازاتنا كلام كثير، أثاره الحساد والواشون، وكثر منهم القيل والقال، إذ هذه الفئة لا تجد راحتها إلا في تعطيل العمل، وتجميد الإنجازات، فبلغ ذلك كله د منصور رحمه الله، وأزعجه جداً، بل تجاوزته إلى غيره خارج الجامعة، فازداد القلق عند معاليه مما كان يبلغه، وتعمقت أزمة الثقة عنده تجاه إدارة الصندوق، حتى أصابنا القلق كما أصابه، ولأنه الإداري المتخصص، وصاحب الخبرة العريضة، فقد اختصر الخطوات، وقرر أن يقف على الأمر بنفسه، وأن يتأكد من كل ما وصل إليه.
ذات ضحى اتصل بي مدير مكتب معاليه، يبلغني أن د منصور يرحمه الله يرغب في مقابلتي، فانطلقت إليه مباشرة، وما لبثت أن دخلت عليه مكتبه، فإذا هو واقف يستقبلني بابتسامة عريضة، يهش ويبش، وكأنني صديق قديم له من حرارة استقباله لي، لكنه بعد أن رحب بي، وصفق يده بيدي ليدلل على حرارة الاستقبال قال: “الوشلي، الوشلي، ليش الناس يتكلموا عليك، إنته لو أخوي يمكن أصدق فيك”، كان هدوئي مثيراً له، ثم قال: إيش تقول.؟!، قلت له الكلام الذي لا دليل عليه كلام ببلاش، وهو كلام ساقط لا قيمة له، وانما العبرة بالبينة.
كانت دهشته كبيرة، ونظر إلي بعينين مفتوحتين، مستغرباً هذه الثقة وهذا الهدوء، فأخرج أوراقاً كثيرة يساءلني عن هذه وتلك، فأجبته إجابات مقنعة، يدل على ذلك أنه كان يقدف بها بعيداً عنه، وكأن الأمر قد انتهى، ولما رأيت استرساله فيما يقول ويفعل، قطعت عليه ذلك: هل ستسألني عن كل هذا الذي بين يديك.؟، فهز رأسه بالإيجاب، فقلت لماذا تكلفون أنفسكم كل هذا العناء، أنتم بين أمرين لا ثالث لهما.!، أثاره مرة أخرى ما قلت له، ونظر إلي باستغراب، وقال لي بلهجته المدنية : إيه هيّ، قلت إما أن تفصلونني، أو أقدم استقالتي لكم، فالبلد مليئة بمن هو خير مني، لماذا تضيقوا على أنفسكم، أو تشكلوا لجنة ثلاثية من مختصين وليأتوا ليفحصوا عملنا ومستنداتنا، فإذا وجدتم شيئا مما يريبكم، فاضربوا ضربتكم، ولا تأخذكم فيني ولا فيمن معي رأفة..؟!!، قال لي كذا.؟ قلت له نعم، فإذا به يقذف بكل أوراقه في درجها، وينتصب واقفاً ليقول لي بلهجته الجميلة: روح يا بويه، اشتغل وانطلق في عملك، واذا أحد قال لك “شيء” تعالي لي أنا، ما لك دخل في أحد، ثم ودعني بأحر مما استقبلني به.
هذا المشهد هو بيت القصيد من هذا المقالة، وفي هذا الرثاء مني لمعاليه، إذ هو يبين شخصية “منصور التركي”، المكتنزة حزماً وخبرة، و مباشرة وعفوية، مع نقاء نفس وطهارة قلب، والأهم من هذا كله: الشجاعة الكبيرة، وسرعة الحسم، فهو ليس من المترددين المتأرجحين، بل كان ممتلئاً ثقة لا غرور فيها، وبساطة لا ضعف فيها، وأدب لا يشوبه خلل، تغمده الله بعفوه ورضوانه، وصورة ذلك اللقاء لا تزال ماثلة أمامي، واشهد أنه كان بالنسبة لي من أعظم ما أفدت منه في حياتي العملية، أعمق من كتب، وأكبر من دورات، إذ هو يختصر لي خبرة رجل في موقف.. يرحمه الله.
عدت إلى العمل مزهواً بكلماته، شاعراً بالنصر، ولكني لم أنبس بشيء مما دار بيني وبينه إلا لمن لهم علاقة مباشرة، ووقع عندهم موقع الارتياح، وبالفعل كان ذلك اللقاء كالماء الذي انسكب على ألسنة اللهب التي ترتفع من هنا وهناك، وخمدت النار، وانطفأت الألسن اللائكة بالكذب والزور، وانطلقنا بالتالي في عملنا دون التفات وانجزنا، وحققنا الكثير مما تمنينا، وما كان ذلك ليكون لولا فضل الله ثم حزم د منصور رحمه الله.
لم يكن هذا الموقف إلا بعد أن باشرت الجهات الرقابية عملها في فحص مستنداتنا، بل اتخذت خطوة أكبر من ذلك إذ عممت جهات الرقابة مهمتها على كل الجامعات، وفحصت مستندات صناديق الجميع، واستمر هذا العمل فترة تقارب السنة، ورفعت تقاريرها إلى الجهات العليا في الديوان، إذ ورد خطاب من الديوان الملكي لمعالي د منصور يوضح فيه أن إدارة صندوق طلاب بجامعته هي الأميز في عملها، ويشكرون الجامعة على منجزاتها، وعملها المتفق مع النظام، كانت مفاجأة للجميع، وكانت البهجة تملأ النفوس، لكن بهجة د منصور وسروره فوق ذلك كله، ولا يبتهج لانتصار موظفيه إلا من يحمل قلباً كبيراً، وصدراً نقياً، وكذلك كان رحمه الله .
ووردتني بعد ذلك بمدة برقية خطية فيها شكر وتقدير من معالي وزير التعليم العالي د خالد العنقري، ولا أظن كل ذلك إلا بفضل الله ثم جهود معالي د منصور بن إبراهيم التركي يرحمه الله، فهو رحمه الله يفرح أن ينسب العمل إلى أهله، ويبلغهم شخصياً بالثناء الذي بلغه عنهم، وهذا لا يتهيأ إلا عند الشخصيات ذات الوزن الثقيل أمثال د منصور يرحمه الله.
وقد لقيته بعد ذلك مرات بشكل عابر، فكان يعاملني وكأني الكبير وهو الصغير، ولا يخاطبني إلا “شيخنا” تواضعاً منه رحمه الله، فهو أنموذج لما نتداوله: من تواضع رفع، وإلا فمكانة كل منا معروفة، فهو الكبير وأنا الصغير، فما أنا إلا تلميذ تعلم منه الدروس، ولكنها أخلاق الكبار.
هذه كلمات عجلى في رثاء الدكتور المنصور، كانت على إثر انفعال بعد سماع خبر وفاته، وهي لا تفيه حقه، واعتذر عن التقصير فيما عبرت، وعن الخطأ فيما كتبت.
فله مني الشكر والدعاء ما حييت، وأسأل الله أن يغفر له، ويخلف عليه في عقبه، وأن ينزله منازل عالية في جنات النعيم، مع النبيين والصديقين إنه خير مسؤول، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين.