كنت ذات يوم ضمن نخبة من الضيوف لدى الوجيه الكريم الشيخ سليمان الراجحي، بدعوة وترتيب من مؤسسته الخيرية، حضر المناسبة عدد من منسوبي المؤسسة وغيرهم، وكان ضيف الشرف في هذا اللقاء معالي الشيخ “صالح الحصين” رحمه الله، وتغمده بعفوه ورضوانه، إذ كان رئيساً لإحدى اللجان المهمة العاملة في المؤسسة، التي كانت تشرف على سير العمل الخيري، بتكليف من ولاة الأمر وفقهم الله.

تحدث إلينا ضيفنا الكريم رحمه الله ذلك اليوم عن موضوعات كثيرة، كان من أهمها حديث ماتع ونافع عن السلفية الحقة، ومفهومها الصحيح، واللبس الذي وقع بسبب هذا الاسم، والأخطاء التي وقع فيها البعض، فنُسب إلى الإسلام ومنهج السلف الصالح بسبب ذلك ما ليس منه ظلماً وزوراً.

وسأشير إلى بعض ما أتذكره من حديث معالي الشيخ رحمه الله يومذاك بمعناه لا بمبناه، وذلك في عدة مسائل.

فأول تلك المسائل: أنه قرر رحمه الله أن السلفية هي ما يجب أن يترسمها المسلمون، لا خيار لهم إلا الالتزام بها، إذ السلفية هي الإسلام: بشموله ووضوحه ونصاعته وجماله.

الثانية: أن السلفية ليست مجرد دعوى، يدعيها كل من هب ودب، كما أنها ليست حزباً أو جماعة أو جامعة أو معهد أو مركز، بل هي دين الله الحق: الإسلام، فهي إذن عقيدة صافية، وعبادة صحيحة، ومعاملة صادقة، وأخلاق حسنة.

الثالثة: أن المعيار لمعرفة السلفية ومفهومها الصحيح: هم فهم أولئك البررة الكرام “الصحابة”، الذين تلقوا كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، من فم رسول الله ﷺ، وطبقوه على أنفسهم، والوحي يتنزل غضاً طرياً، يقرر ويصوب.

الرابعة: أنه رحمه الله أشار إلى خطأين اثنين أسهما في تشويه السلفية، والتنفير منها:

أولهما: شدة “بعض” المنتسبين للسلفية، وجفاء طريقتهم في الدعوة، والحدة في التعامل مع الناس، وانشغالهم بإصدار الأحكام عليهم، من غير حاجة تبتغى، ولا مصلحة ترتجى، إذ السلفية وسط بين طرفين، فلا هي الشدة والعنف، كما أنها ليست التميع والتساهل، بل التزام تام بالإسلام كما فهمه السلف الصالح.

الخامسة: ذكر رحمه الله أنه زار بلداناً كثيرة، ووجد شكوى مريرة من “بعض” الدعاة، اتصفوا بتلك الأوصاف، بالرغم من أنهم من خريجي جامعات إسلامية مرموقة، وتساءل يومها عن سبب هذا الجفاء، وتلك الشدة، وهل هي عائدة إلى الطبيعية النفسية لأولئك الأشخاص، أم للمناهج التي يدرسونها، أم طريقة التدريس التي ينتهجها أساتذتهم.؟

السادسة: اقترح رحمه الله يومها تشكيل لجنة من علماء وعقلاء وخبراء؛ لدراسة الأسباب، ووضع الحلول المناسبة لذلك، إذ من واجب الجميع نشر السلفية الحقة، بأحسن الأساليب، وأجمل الطرق، حتى لا يفتن الناس بالوسائل والأساليب الخاطئة، فإذا أحسن الناس البلاغ عمت السنة أرجاء العالم.

السابعة. أن ثاني تلك الأخطاء: الحرص على التسمي بالأسماء والألقاب، للأشخاص والمؤسسات، ومن ثم التعصب لها، والتحزب حولها، وذكر أنه لمس آثاراً سيئة لتلك المسميات، إذ حالت بين الناس وبين الإفادة مما لدى السلفيين من علوم كثيرة نافعة، لا سيما في البلدان التي تكثر فيها الجماعات والأحزاب، إذ الاسم يعطي انطباعاً خاطئاً عن المسمّّى، ورأى أن الاهتمام بالمضمون أولى من الاهتمام بالشكل، حتى ولو كان سائغا، طالما ترتب على ذلك حصول مفاسد، أو فوات مصالح.

 

الثامنة: مثل رحمه الله لنفرة الناس من الأسماء بما وجده أثناء زيارته لبلد كبير، ونزل فيه ضيفاً على السلفيين – أهل الحديث – باعتبار القرب المنهجي والعلمي، وقام بجولات على مناشطهم العلمية والدعوية والخيرية، ورأى أموراً تسر الخاطر، وتشرح الصدر، وتقوي عزيمة المسلم، إذ عنوا بنشر التوحيد والسنة، وتعليم الناس الخير، وقد عبر لهم عما رآه بغبطة وسرور، إذ وجد عندهم خيراً عظيماً، ونفعاً كبيراً، فأثنى وأشاد، وشكر ودعا.

التاسعة: ولكنه رحمه الله تكدر بسبب إهتمامهم بالأسماء، حيث وجد جامعة أهل الحديث، ومعهد أهل الحديث، ومدرسة أهل الحديث، ومركز أهل الحديث، ودار أهل الحديث، حتى مساجدهم سموها بمساجد أهل الحديث، ورأى رحمه الله أن تلك الأسماء نوع من الحزبية والعصبية! إذ الأولى من وجهة نظره الاكتفاء باسم الإسلام، الاسم الذي يشمل الجميع،ويتسع للجميع، طالما كان المضمون محل رضى وقناعة، حتى يعم الخير، ويُقبل الناس على تعلم السنة من كل الفئات، وكل الجماعات.

العاشرة: ذكر أنه نصحهم بترك تلك المسميات، وكان يكفيهم أن تكون القيادة لهم، والمناهج من تأليفهم، وأنهم بعد ذلك ينبغي لهم أن يرغبوا الناس – كل الناس – في الإقبال عليهم، والانخراط في مناشطهم، حتى ولو كانوا كفاراً، ترغيباً لهم في الدين والسنة، وتعريفاً لهم بالإسلام، ومنهج السلف الصالح، وأن الأسماء والأشكال منعت كثيراً من الناس عن فهم مضمون الإسلام، وأن بعضهم لما خالطوا أهل العلم والدعوة عن قرب، رأوا شيئاً مختلفاً، إذ رأوا العلم والسماحة، والتفاني في تعليم الناس، فأقبلوا على السنة بشغف شديد..إلى آخر ما قال رحمه الله.

الحادية عشرة: شدد رحمه الله في حديثه ذلك اليوم على أنه لا ينبغي ان نسمح لبعض منا، أن يشوه سلفيتنا، ويحول بين الناس وبين ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأنه يجب علينا أن نعرض الإسلام في أبهى صورة، وأجمل وعاء.

انتهى المقصود من كلامه رحمه الله: بمضمونه ومعناه، لا بحروفه ومبناه.

ومما لا يخفى أن مهمة أهل العلم: دعوة الناس إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، وتعليمهم العلم بأدلته الشرعية، مع بيان البدع، والتحذير منها، ومن دعاتها؛ بعدل وإنصاف، دون تجن أو اعتساف، وإبداء النصيحة، وتجنب الفضيحة، رجاء قبول الدعوة، لا التنفير منها، فإذا كان التنفير بعمل مشروع كالتطويل في الصلاة مرفوض شرعاً؛ لأنه يشق على المسلمين، ويجلب الفتن، فكيف بالتنفير من الدين جملة بعمل غير مشروع؟ وكيف تقبل الدعوة السليمة، وهي منزوعة من الرفق، مشينة بالعنف؟ وقد قال النبي ﷺ::إِن الرفق لا يكون في شيء إِلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه”.

والسلفية دعوة جامعة، تدعو إلى جمع كلمة المسلمين على كلمة التوحيد الخالص، ومتابعة الرسول ﷺ، وتزكية النفوس بالعبادة الصحيحة، والأخلاق الحسنة، والخصال الحميدة، وتسعى إلى التعاون الأخوي على البر والتقوى، مع النصح والتسديد بحكمة ورفق، وهذا منهج ثابت لا يتخلف، مهما تباعدت الأمكنة، واختلفت الأزمنة.

وعلينا أن نتذكر أن من النعم العظيمة على المسلم أن يعيش في بيئة سلفية سليمة، ينشأ فيها على التوحيد الخالص، بعيداً عن البدع والخرافات، لا يسمع إلا قال الله ﷻ وقال رسوله ﷺ، ويرى أمامه العلماء والدعاة يترسمون خطى السلف الصالح، في عقيدتهم وعبادتهم، ومعاملاتهم وأخلاقهم، ومن شكر هذه النعمة، أن يرحم الخلق بدعوته لهم إلى السنة، ويحنو عليهم، ويرفق بهم، ويتحلى بالصبر على ذلك مهما تحمل من عناء، لكي ينجح النجاح العظيم في دعوته.

ولا شك أن دين الإسلام محفوظ بحفظ الله له، كلما أحدث الناس فيه محدثات، وزادوا فيه بدعاً وعبادات، بعث الله من يجدد أمر الدين، ليعيده إلى ما كان عليه النبي ﷺ وصحابته الغر الميامين، ويدعو الناس إلى التأسي بالنبي ﷺ من جديد، واتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، تنفيذا لتوجيهات ﷺ، وتحقيقاً لقوله ﷺ:”لا تزال طائفة من أمته قائمة بالحق، ظاهرة على الناس، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.

ومن فضل الله علينا في هذه البلاد المباركة أن رأينا علماء قدوات، كانوا من بقايا السلف كالشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز، والشيخ الإمام محمد بن عثيمين، والشيخ الإمام عبدالله بن جبرين وغيرهم كثير، كانوا مثالاً يحتذى في الصبر والمرحمة، والرفق واللين بالناس، رحم الله من مات منهم، وحفظ لنا البقية الباقية، عسى أن يحفظ الله بهم وبأمثالهم دينه: دين الإسلام العظيم، بمنهجه القويم، وعقيدته الصافية، وأخلاقه العظيمة.

أسأل الله جل وعلا أن ينصر دينه، وسنة نبيه، ويعز أولياءه، ويذل أعداءه، كما أسأله سبحانه أن يهدينا جميعا للحق، ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدِّين.