بسم الله، والحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سماحة الوالد الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله، المولود عام 1330هـ، علَم لا يحتاج إلى تعريف، إذ أطبقت شهرته الدنيا، وعرفه القاصي والداني، وصار عند الجميع إمام أهل السنة في هذا العصر، وأصبح مرجع أهل العلم في العالم، ورزق القبول عند العامة والخاصة، إذ عرف بعلمه وزهادته وورعه، وصدقه وحلمه وتواضعه، وحرصه على القرب من الناس عامة، وخدمتهم، وسعيه في قضاء حوائجهم، تقلد مناصب كبيرة وكثيرة، وتعلم على يد علماء كبار، كان أبرزهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وكان الشيخ ابن باز إذا تحدث عن شيخه الأثير بكى وأبكى، كان مثالاً في الهمة والجد، إذ حياته كلها جهاد ومجاهدة لا تعرف الكلل، وبرنامجه اليومي مليء بالعمل والإنجاز، لا يعرف الراحة ولا تعرفه، أدركه الناس هكذا: مثالاً فريداً منذ عرف حتى مات، رحمه الله، وأفسح له في عليين.
حين أعلنت وفاة سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، سارع الناس من شتى مناطق المملكة، متجهين إلى مكة، براً وجواً، للمشاركة في تشييع جنازة الشيخ الإمام، وصلنا مكة صباح يوم الجمعة 28 محرم 1420هـ، واتجه الناس إلى الحرم، وكان الناس جماً غفيراً لا تكاد العين أن تحيط بهم، ولكثرتهم لم يتهيأ لنا أن نرى جنازة سماحة الوالد إلا بمشقة، صلى بنا الجمعة فضيلة الشيخ ابن سبيل رحمه في خطبة موجزة، غالب فيها الشيخ عبراته، فلما قضيت الصلاة حمل الشيخ على الأعناق، فكانت جنازته تموج وتسبح في أمواج الناس الهادرة، واصطف الناس على شرفات المسجد الحرام المطلة على صحن الطواف في منظر مهيب، وهم ينظرون إلى الجنازة وأعينهم تفيض من الدمع حزناً لفراقه، ثم نقلت جنازته إلى السيارة التي أقلته إلى مقبرة العدل، حيث دفن جثمانه الطاهر هناك، رحمه الله رحمة واسعة.
لم نستطع القرب من الجنازة في المسجد الحرام، فضلاً أن نلحق بها، ولم نصل إلى مقبرة العدل إلا بعد أن انفض الجمع، ولم يبق إلا الخُلَّص من تلاميذ الشيخ الإمام ومحبيه، منهم مشايخ كبار، وطلاب علم ودعاة، ووجهاء، وقفوا على قبره رحمه الله، يبكون ويبتهلون، ويلحون في الدعاء أن يغفرالله لسماحة الوالد الإمام، ويرفع مقامه في جنات النعيم، وكان منهم شيخنا ووالدنا وجارنا الشيخ عبدالله بن محمد المعتاز حفظه الله ورعاه، فاتجهت إليه مسلماً ومعزياً، وإذا برجل سوداني عليه علامات الصلاح، يقف ليس بعيداً عن شيخنا المعتاز، لكنه كان يبكي بكاء مراً، فابتدرني الشيخ مستفسراً هل تعرف هذا؟ قلت له: لا أعرفه، فقال هذا له قصة مع الشيخ ابن باز رحمه الله، ولذا فهو يبكي عليه بمرارة، ويرى أن فقده له ليس كفقد الناس له، وأردف الشيخ قائلاً: أخبرك بالقصة لاحقاً “بعدين”.
التقيت بالشيخ حفظه الله بعد ذلك، وسألته عن موضوع الرجل، فذكر لي القصة كما أكتبها اليوم، بمضمونها ومعناها، لا بحروفها ومبناها، وحين عزمت على كتابتها هذه الأيام ذهبت إليه عافاه الله مسلماً، ومذكراً بالقصة، ومستأذناً إياه في تدوينها؛ ليفيد منها الناس، فيدعون له وللشيخ الإمام، وللشيخ الهدية ولصاحب القصة، فذكرها حفظه الله، ولكنه لم يعد يذكر تفاصيلها كاملة، غير أنه شجعني على تدوينها، وها أنا أدونها كما وعيتها يومذاك.
قال لي يومئذ حفظه الله ما خلاصته: هذا رجل سوداني كان من شباب جماعة أنصار السنة بالسودان، التي كان يرأسها فضيلة الشيخ محمد الهدية رحمه الله حينذاك، وكان هذا الشاب نشيطاً ذا همة عالية، لا سيما في القراءة وطلب العلم، وكان نهماً في قراءة المطولات، خاصة التراجم والسير، فقدر له أن عكف على قراءة كتاب سير أعلام النبلاء للإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله، فلما قرأ هذا الكتاب، أورث عنده شكوكاً عظيمة، إذ لم يصدق أن الذهبي يتحدث عن أناس طبيعين، ورأى أن هؤلاء الذين يتكلم عنهم رحمه الله لا يمكن أن يكونوا على الأرض، فهم أشبه بالملائكة لا بالبشر، وبدأ يناقش هذا ويجادل ذاك، حتى ضاق من نفسه، وضاق منه زملاؤه، وتعبت منه جماعته، وكاد الأمر أن يصل به إلى التحلل من الدين، بحجة أنهم يعلمون الناس أموراً مثالية وخيالية، لا تمت إلى الواقع بصلة، فالواقع بعيد عنها كل البعد، وتحققها على الأرض بهذه الصورة أمر بعيد، أو أن الذهبي وأمثاله – عنده – مجرد كذابين خراصين – حاشاهم – يتكلمون من تلقاء أنفسهم عن أشياء غير حقيقية، بل وغير موجودة، أو أنه يكتب عن مخلوقات ليست من أهل الأرض.. إلى آخره.
استمرت به هذه الحال مدة، وبدأ بعض شباب أنصار السنة يتأثرون به، والجماعة لا تدري كيف تعالج الأمر، إذ لم ينفع معه النصح، ولم يعودوا يدرون كيف يتعاملون معه، أيبعدونه أم يؤدبونه، وكان أكثر المهمومين من أمر هذا الرجل هو الشيخ محمد الهدية رحمه الله، إذ هو المسؤول عن هذا الصرح الدعوي الكبير، وهو كذلك مسؤول عن تحصين شباب الدعوة من الشبهات.
وذات مساء كان الشيخ لديه درس أو لقاء، في قاعة مركز أنصار السنة، حضره كافة منسوبي أنصار السنة المحمدية أو غالبهم، وأثناء انعقاد هذا اللقاء تلقى الشيخ الهدية اتصالاً من سماحة الوالد الإمام بن باز رحمهما الله، وبعد إنتهاء الإتصال، استأنف الشيخ لقاءه، لكنه قال للحاضرين بابتهاج وسرور أن هذا المتصل كان بقية السلف الشيخ الوالد ابن باز، وفجأة نهض الرجل صاحب القصة، ووجه حديثه بصوت مرتفع أمام الجميع إلى الشيخ الهدية! بصوت ممتلئاً تعجباً واستغراباً: “مين؟ بقية السلف؟”، ففهم منه الشيخ الهدية لأول وهلة أنه يقلل من مكانة سماحة الشيخ ومنزلته، فبدأ الشيخ الهدية يعرف بسماحته ويتحدث عنه، فقاطعه الرجل قائلاً: الشيخ معروف، “ودوني عند هذا بقية السلف، فإما أن يعالجني مما أنا فيه، أو أنتم تخْلَصوا مني”.
راقت الفكرة للشيخ الهدية، واستحسنها، وبادر بالاتصال بسماحة الوالد الإمام، يشرح له الأمر، ويبلغه رغبة الرجل، فوافق سماحته على الاقتراح فوراً، وكلف من يبعث له بـ “فيزا” دخول، ليأتي إلى المملكة، من أجل طلب العلم على سماحته، فاستعد الرجل للرحيل، وتهيأ للمغادرة، لينتقل إلى الرياض، ليتسنى له رؤية سماحة الشيخ الإمام عياناً، ويتعرف على علمه ودعوته، وسيرته ومنهجه؛ لعله يفيد من ذلك علماً وعملاً، وربما كان علاجاً ناجعاً لما اعتراه من لوثات وشكوك.
وبالفعل انتقل صاحب القصة الى الرياض، ولازم سماحة الشيخ رحمه الله في دروسه، وصاحبه عن قرب، وما لبث إلا قليلاً حتى كان يردد: صدق الذهبي، صدق الذهبي، فقد رأى أنموذجاً يماثل ذلك النوع الذي تحدث عنه الذهبي في سيره، رأى “بقية السلف”، رأى منهج السلف، رأى العلم النافع والعمل الصالح، رأى الإسلام عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاقاً، رأى العلم والدعوة والاحتساب، رأى الجد والاجتهاد، رأى الصبر والاحتمال، رأى السعي في نصح الناس وتعليمهم، رأى بذل النفس والنفيس خدمة للدين وأهله، رأى التواضع واللين وخفض الجناح، رأى السماحة كلها، بما تعنيه هذه العبارة، رآها أمامه تمشي على الأرض، وهنا زالت عنه الغشاوة، وفاق من تلك الغفوة، وكانت الرحلة، وكان العلم، وكان العلاج، رحم الله سماحة الوالد الإمام الشيخ ابن باز، وأخلف على الأمة خيراً.
هذا الرجل هو ذاك الذي أشار إليه شيخنا المعتاز في مقبرة العدل، ذاك الذي كان يبكي على قبر الشيخ أو قريباً منه، يدعو للشيخ، ويتألم على فقده، ويشير إلى قبره ويقول: “مات الذي رد علي روحي”، “مات الذي رد إلي عقلي”، أو كلمة نحوها، هذا الرجل، هو ذاك الذي كان يشك في كل شيء، ويكذب كل شيء، هذا هو الذي كان لا يصدق من كلام السلف أي شيء، حتى رأى هذا الإمام القدوة رحمه الله، فرد الله عليه عقله، واستقرت بذلك نفسه، وهدأ روعه، وحين رأى “بقية السلف” تفرغ بعد ذلك لطلب العلم على منهج السلف، ويدعو إليه، ويصبر على الأذى فيه، ويتمنى لو كان الناس على ما هو عليه، أو على ماكان عليه السلف الصالح: منهج قويم، وعقيدة صافية، وعبادة صادقة، وأخلاق عظيمة، رحم الله الشيخ القدوة، ورحم الله الشيخ الهدية، وحفظ الله شيخنا المعتاز، ووفقنا جميعاً إلى مرضاته، وثبتنا على الدين الحق، وجعلنا ممن يلتزم كتاب الله ﷻ، وسنة نبيه ﷺ، بفهم الصحابة الكرام، والتزام منهجهم، إنه تعالى خير مسؤول.
هذه القصة المؤثرة تؤكد على أهمية القدوات في حياة الأمة الإسلامية، في نهضتها الدينية والعلمية والدعوية والاجتماعية، وأن الأمة لا يمكن أن تنهض إلا بتوفيق الله ثم وجود هذه القدوات بالعدد الذي يمكن للمسلمين أن يتأسوا بهم، ويسيروا على آثارهم، القدوات الراسخون، القدوات الزاهدون، القدوات الباذلون المحتسبون، وأن وجود أمثال هؤلاء نشاط للأمة وحياة، وأن فقدهم أوغيابهم موت وضياع، وأنهم إن فقدوا فواجب على عموم الأمة أن تسعى في إيجادهم أو صناعتهم، وأول الخطوات لذاك، إيجاد البيئات العلمية والدعوية المناسبة، في الجوامع والجامعات، في البيوت والكليات، في المدارس والمناشط، في الإعلام والتعليم، في كل بيئة يمكن أن تُرعى فيها المواهب، وتتخرج منها القدرات والقدوات، وعسى أن يكون ذلك قريبا، والله أسأل أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعيد إليهم أمجادهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، إنه جواد كريم، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين.
ملحوظة: استشكل بعضهم العنوان، كونه رد الفعل الى المخلوق، وأحب أن أوضح ما يأتي : أولاً : أن هذه العبارة هي التي سمعتها بنصها، وثانياً: أن المقصود هنا فيما فهمت الرد المعنوي لا ما قد يفهمه المستشكل، ثالثاً: أنني في سياق القصة أشرت ألى العبارة الصحيحة فقلت: فرد الله عليه عقله إلى آخره.. ومع ذلك فملحوظتهم ستؤخذ بعين الاعتبار..شكراً لكل من شجع ودعا وشكر وأحسن الظن، وفقك الله للجميع للصواب، ورزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه خير مسؤول.
حرر فجر يوم السبت: 20 ذي القعدة 1441 هـ
– تدوين: محمد بن علي الوشلي الحسني .
عرضت ما كتبت أعلاه على شيخنا المعتاز ليلة الإثنين 22 ذي القعدة 1441 هـ ، فتأثر جداً، وأثنى ودعا وشكر، حفظه الله، والحمدلله رب العالمين.