23 يناير، 2025 2:06 ص

درس تربوي من اللاعب الهلالي د إبراهيم البابطين !

28 أكتوبر، 2022

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله.

حين كنت مديراً تنفيذياً لصندوق طلاب جامعة الملك سعود في الفترة من العام 1406هـ إلى العام 1421هـ مرت بي مواقف كثيرة، منها الإيجابي وهي الغالب، ومنها السلبي وهي قليلة، وهو أمر طبيعي لمن مارس الإدارة، وعرف تشعباتها ومعاناتها الكثيرة، إذ الخلاف يحتدم جداً بين الإدارات التي تتداخل مهامها لا سيما حين يكون المال هو عنصر المنافسة والاختلاف.

وصندوق الطلاب كان مسؤولا عن تحقيق جملة من الأهداف، منها: مساعدة الطلاب مالياً، والتخفيف من معاناتهم خلال مسيرتهم التعليمية، ومنها دعم أنشطتهم الطلابية الثقافية والاجتماعية والرياضية التي تقيمها الكليات والسكن الطلابي لهم.

وكنت أتفاعل كثيراً مع طلبات دعم النشاطات الثقافية والاجتماعية، وأتبني التوصيات التي كانت تعرض على مجلس إدارة الصندوق بدعمها، والتوسع في مجالاتها، لكني لم أكن أجد حماسة كافية لدعم النشاطات الرياضية، للخلفية التي ربما كانت في ذهني عن الممارسات الرياضية، وأنها مجرد تضييع للوقت، فهي لا تبني عقلا، ولا تزكي نفساً، ولا تغذي روحاً، إن لم يكن فيها ما يؤثر سلباً على سلوك الطلاب فضلاً عن تأثيرها على مستوى الطالب تعليمياً، هكذا كان انطباعي عنها، وأظنه انطباع كثيرين.

وكان الخلاف بين إدارة الصندوق وإدارات النشاطات الرياضية يحتدم ويتأزم، وينتقل هذا الخلاف الى مجلس الإدارة، فينقسم المجلس إزاءه بين مؤيد ومعارض، بناء على ما أشرت إليه من معلومات ووجهات نظر، أو إن شئت فقل: ما كنا نحمله من انطباعات! وكان المجلس في النهاية يوافق على الدعم لكن في الحدود الدنيا مما كان يطمح له مشرفو النشاط الرياضي، إذ الناس ما زالت تتعدد أفكارهم ومواقفهم حيال كثير من القضايا، ولكنهم يناقشونها بروح مسؤولة، واحترام للقرار، إذا اتخذ بطرقه النظامية مهما كان.

وكانت هذه هي الروح التي تسود الجميع إلا ما ندر، فبعضهم كان يسيء الظن في المخالف، وربما فسره بعضهم بأنه موقف شخصي أو ديني أو نحو ذلك، مما لا تخلو منه المجالس والإدارات مهما قل.

في هذه الأجواء عين د إبراهيم بن عبدالوهاب البابطين وكيلاً لعمادة شؤون الطلاب للنشاط الرياضي، وهو الأستاذ بكلية التربية المتخصص في طرق تدريس الرياضيات، والمشرف على قسم التربية الرياضية، أو التربية البدنية، بكلية التربية نفسها، بوصفه لاعب كرة الطائرة في نادي الهلال أيام شبابه، ولاهتمامه الكبير بالشأن الرياضي عامة، فقد جمع بذلك بين رياضة الأذهان ورياضة الأبدان، ولا يزال إلى اليوم مهتماً بهذا الشأن، إذ هو اليوم رئيس الاتحاد السعودي للكرة الطائرة، وبالطبع لم أكن أعرفه شخصياً، فضلاً عن متابعة اهتمامه الرياضي لاعباً أو أستاذاً ، فأنا لست من المهتمين بالشأن الرياضي، ولا من المتابعين لفعالياته منذ كنت شاباً يافعاً.

المهم هذه أول مرة يتولى متخصص رياضي هذا النشاط على وجه الاستقلال، إذ كان سابقاً يندرج ضمن وكالة النشاط الاجتماعي، وبالرغم مما سبق من الانطباعات عن الرياضة والرياضين، لكن ذلك لم يمنع من التعاون معه كغيره، فالصندوق ما وجد إلا لدعم الطلاب، ضمن أنظمة وأطر، وعلى الجميع التزامها وتنفيذها.

باشر د إبراهيم عمله، وتعرف على مجالات العمل ومناشطه، وزرناه نحن الموظفون في مكتبه، وهنأناه ودعونا له بالتوفيق في عمله الجديد، كما نفعل مع كل أكاديمي يكلف بمهمة إدارية ما، فنحن الدائمون في المواقع غالباً، وهم المؤقتون في مواقعهم غالباً، وهكذا كانت الأمور.

وفجأة بدأ الدرس، إذ اتصل د ابراهيم، وطلب زيارتي في مكتبي، فقلت له بل أنا الذي أزورك، فأنت صاحب الحق، فأبى وألح وألححت، فأصر ووافقت، وحين استقر بنا المقام، حدثني عن طموحه، وأنه يريد أن يفيد شريحة عريضة من الشباب في خطته الرياضية، وحرصت أن أنصت إليه بأذني وعينيّ، لكنه أدرك بذكائه أو ربما بمعلوماته المسبقة عن وجهة نظري أنني ربما أستمع له مجاملة، لا سيما أنني بدأت في توجيه مجموعة من الأسئلة عن خطته، وأيضاً حزمة من الملاحظات عن واقع النشاط الرياضي، إذ كانت سمعته ليست بتلك السمعة الحسنة لا سيما عند شريحة كبيرة من المجتمع، وهنا استوى في مجلسه وخاطبني بصفتي شيخاً! وقال لي: أنا أعرفك يا شيخ، وربما أنت لا تعرفني، كنا معاً في عداد طلاب السكن، وكنت أنت إمامنا في جامع السكن الجامعي “مطوعنا”، وكنت أرى جهودكم التوعوية والتثقيفية للشباب، وهي جهود مشكورة، لكني أنا وأمثالي ربما لا نستطيع أن نقوم بما تقومون به، وإن كنت أتمنى أن أكون مثلكم، “وأشار إلى لحيته”، – يعني يتمنى أن يكون مطوعاً مثلي – ثم أردف قائلاً: وأيضاً الشريحة التي تنتفع من نشاطكم الثقافي والاجتماعي صغيرة الحجم قليلة العدد!

الحقيقة أن كلامه كان جديداً علي، لا سيما من شخص رياضي، وبدا كلاماً لافتاً يستثير العقل والقلب معاً، وبدت منطلقاته تربوية قبل أن تكون رياضية، لكن الأسئلة عندي كثيرة، خاصة أنه استخدم مفردات ذكية، وكأنه يقول : أنا لهذا “المطوع”، أو أنا من سيبدد اعتراضاته، وأنا الذي سأغير رأيه، وأكسبه نصيراً لخطتي الرياضية الطموحة، بدت هذه الأفكار تدور في ذهني وأنا استمع إليه، وربما وجدْت في نفسي أن هناك من أثّر عليه بمعلومات مغلوطة عني، بل وشوه نظرته إلي، ورأيه في أمثالي، لكني قبلت التحدي، وقلت في نفسي: لنستمع، فربما كان لديه بالفعل شيء جديد.

قبل أن يشرح خطته أشار إلى أنه زار معالي مدير الجامعة د. منصور التركي رحمه الله، ووكيل الجامعة للمشاريع د محمد الجار الله، وإدارة المشاريع، وأن خطته لاقت ترحيباً منهم، وأنهم وعدوا بمساندته، لكنهم أحالوه إلى إدارة الصندوق بوصفه الداعم الرئيس للنشاط الطلابي، فزاد الشك عندي، وأن إشارته إلى هؤلاء نوع من الضغط والتأثير غير المباشر لإقناعي، بدأ الصراع في داخلي بين الإيجابي المستجيب لكلامه الجميل والمؤثر، والسلبي المضاد لكلامه، الذي يعتقد أنه لا جديد عنده، لكنه نوع من الذكاء في تمرير أفكاره، فتوجهت إليه: د. إبراهيم اعرض مشروعك الجديد المفيد “تربوياً” لشريحة عريضة من الطلاب، وأعدك أن أكون من المساندين لك إن كان كذلك.

استوى مرة ثانية، ثم وجه الحديث بهدوء وثقة: الجامعة تملك أرضاً كبيرة، واسعة الأرجاء، غير مستفاد منها حالياً، أريد أن نحولها كلها ملاعب كرة قدم، لكن بمساحة ملاعب كرة اليد، ليلعب الطلاب سداسيات تنتهي بخروج المغلوب، طموحي أن أراها كلها ملاعب: 100 ملعب على الإقل، دعنا نتيح الفرصة لطلابنا لكي يلعبوا ويلعبوا ثم يلعبوا، وسنفتحها من الرابعة عصراً الى الثانية عشرة ليلاً، سنخصص 8 ساعات يومياً للعب كرة القدم حتى في أيام نهاية الأسبوع!

لم أتكلم، لم أنبس ببنت شفة، بل كنت أحدق إليه النظر فحسب، فرأى علامات الاستغراب على وجهي، فعاد إلى خطابه المشيخي: يا شيخ محمد، في السكن الطلابي نحو ألفين من الطلاب، جاؤوا من مناطق وقرى نائية من بلادنا المباركة، جاؤوا إلينا من كل مكان، تركوا أهاليهم، ولم يألفوا بعد جو المدينة، وأهلوهم يظنون أنهم منشغلون بالتعلم، هم أمانة في أعناقننا، كان كلاماً كبيراً ومؤثراً، قاطعته ثم ماذا أخ إبراهيم؟ أجاب: لكي نحميهم يجب ألا يكون أمامهم إلا ثلاث خيارات، يقضون فيها أوقاتهم، ويفرغون فيها طاقاتهم: إما الدراسة، أو اللعب تحت إشرافنا، أو النوم، وإلا ربما تفلتوا منا، وشغلوا بأمور تافهة، وربما لم نفق إلا بعد أن يغرقوا في المخدرات، وأشياء أخرى مضرة بالوطن، قبل أن يضروا أنفسهم وأهليهم، هذه هي خطتي، وهذا هو مشروعي.

الحقيقة أنه كان كلاماً كبيراً بالفعل، كلام مفيد ومؤثر معاً، أدركت حينها أن من أمامي يحمل فكراً تربوياً، لا أنه مجرد مهتم بالرياضة، وأنه صاحب علم وفكر قبل أن يكون مجرد لاعب كرة طائرة يوماً ما، وحينها أدركت أن الرياضة تربية لو أدركنا مراميها التربوية والنفسية والصحية، وعلمت حينئذ وأنا المهتم بالشأن التربوي – كما أحسب – السر وراء إلحاق القسم المختص بالرياضة بكلية التربية، وتسميته بالتربية الرياضية، وأن التربية أساس صناعة المجتمعات، وأنه يجب ألا ينفك عنها نشاط ما مهما كان نوعه، أو نظرة الناس إليه، وفهمت حينها الحكمة من تقسيم الفقهاء للحكم التكليفي الشرعي إلى: واجب ومندوب ومباح ..إلى آخره، وأن على المربي إن عجز عن إشغال الناس بالواجب والمشروع، فدائرة المباح كبيرة وعريضة، فليسع ولنسع جميعاً لإشغالهم بها إن لم ترتق جهودنا لإشغالهم بما هو أهم وأعلى.

من ذلك اليوم وكلمات هذا المربي تعيش معي، أعرضها كلما وجدت فرصة على المشتغلين بالتربية، والمهتمين بالشباب، فاذا جاءت مناسبة أو ورشة عمل سعيت إلى دفع هذه الفئات للعمل التربوي الطموح، والعمل على ترقية نفوس الشباب وعقولهم بالعلم النافع والعمل الصالح، فإن ضاقت عليهم الظروف، وقلت عندهم الموارد، وعجزت عندهم الإمكانات عن تحقيق ذلك الطموح، ففي المباح سعة عما سواه من المحرم والمكروه، فلا ينبغي أن يترددوا والحال كذلك في فتح المجالات في هذا الميدان أو ذاك، حتى لا ينزلق أبناؤنا وشبابنا إلى ما يضرهم في دينهم وأخلاقهم، ويضر بلادهم ومجتمعاتهم.

هذه لفتة سريعة إلى فكرة تربوية عميقة، لها في ذهني حوالي ثلاثة عقود من الزمن، دفعني إلى تدوينها مكالمة جرت بيني وبين صديقنا د إبراهيم بن عبدالوهاب البابطين بعد انقطاع طويل طويل، وتدوينها هو نوع من الاعتراف بالإفادة منه، وتعميق للصداقة بيني وبينه، وتحفيز للمربين ألا يستنكفوا من القرب من الناس، كل الناس، وأن يفيدوا من كل الأفكار الإيجابية التي تحويها عقول الناس، وتسجلها تجاربهم، فالحكمة ضالة الجميع أنى وجدوها فهم أحق بها، وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين.

حرر فجر يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة 1441هـ

Share on twitter
Share on telegram
Share on whatsapp
Share on facebook