23 يناير، 2025 2:06 ص

المسلمون ومكارم الأخلاق

13 نوفمبر، 2022

﷽، الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مكارم الأخلاق هي عنوان نهضة الأمم، وأساس رقيها النفسي والمجتمعي، وهي الدافع القوي الذي تتحق به تلاحم الأسرة وتراحم المجتمع، فضلاً عن الدول والحكومات، وقد دلت الشريعة السمحاء على مكانة الأخلاق والمروءات وأثرها على سلوك المرء دنيوياً، ونجاته أخروياً، فقال جل شأنه:”ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى”، وقال تعالى:”يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله ولو على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين”، وقال جل وعلا:”وإنك لعلى خلق عظيم”، وقال ﷺ:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

والأخلاق والشيم والمروءات، كما أنها مما جبل عليها الإنسان فطرياً، فهي أيضاً تكتسب وتترسخ وتقوى بالتعلم والتربية، ومصاحبة كرام الخلق، وتضعف وتتلاشى مع الجهل والإهمال، ومصاحبة أراذل الناس، ولهذا كان من دعاء النبي ﷺ:”اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء”، وقال ابن القيم رحمه الله بعد أن أورد حديث أشج عبدالقيس:”فأخبر النبي ﷺ أن الله جبله على الحلم والأناة، وهما من الأفعال الاختيارية، وإن كانا خلقين قائمين بالعبد، فإن من الأخلاق ما هو كسبي، ومنها مالا يدخل تحت الكسب، والنوعان قد جبل الله العبد عليهما، وهو سبحانه يحب ما جُبل عبده عليه من محاسن الأخلاق، ويكره ما جبله عليه من مساوئها”.

والعرب قبل البعثة النبوية، وإن كانوا متخلفين دينياً وعقدياً، إلا أنهم كانوا من حيث الجملة من أرقى الأمم في صفاتهم النفسية والأخلاقية، وكانوا على مستوى عال من الشيم والمروءات، ويتصفون بالشرف والعفة، والغيرة والأنفة، وكانوا من أشجع الناس، وأصبرهم على اللأواء، صوانين للعرض، متنزهين عن الكذب، حتى وصفهم النعمان بن المنذر بقوله:”أشرف الناس حسباً، وأصرحهم نسباً، وأصدقهم وعداً، وأوفاهم عهداً، خيلهم أفضل الخيل، ومطاياهم أصبر المطايا، ونساؤهم أعف النساء”.

هكذا إذن كان شأن العرب في فجر الإسلام، وما تلاه من عصور، فسادت الأمة الإسلامية بعقيدتها وأخلاقها على الأمم، بل ونشرت ما لديها من دين وأخلاق في الأصقاع التي استظلت بظلال الإسلام الوارف، إذ علم المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم: أن تمسكهم بدينهم، واعتزاهم بأخلاقهم مصدر قوتهم، وأن سيادة هذه الأمة وعزها في الدنيا، ونجاتها في الآخرة متعلق بعدم تفريطها بذلك، وأنها إذا وهنت صلتها بهما في مرحلة من المراحل، وهانت عليها أخلاقها في عصر من العصور، فإن ذلك سيؤول بها إلى الضعف والتخلف، والهزيمة أمام الأعداء.

والمتأمل في أحوال الناس اليوم، يلحظ ضعفا شديدا في هذا الجانب، أعني جانب القيم الأخلاقية، وممارساتها في الواقع، بل وتجد إهمالاً شديداً في اهتمام الناس بها، في كل ميادين الحياة: في محيط الأسرة، وفي العلاقة بين المعلم والتلميذ، وفي المعاملة في الأسواق، وفي بيئة العمل الإداري والتجاري، وفي ميدان الدعوة والإحتساب، وفي علاقات الصحبة والصداقة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الميادين، حتى يخيل للإنسان أن أزمة إيمانية وأخلاقية قد ضربت منظمومة القيم في مجتمعاتنا، نسأل الله العفو والعافية.

وفي هذا السياق أذكر قصة تدلل على هذا الضعف والوهن الأخلاقي، فمنذ أعوام دعيت إلى مجلس رجل كبير السن، كريم النفس، كبير العقل، غزير التجربة، بالرغم من أنه رجل عامي، هذا الرجل النبيل – رحمه الله – من قبيلة سبيع الكريمة، التي أكنّ لأهلها حباً كبيراً، وتقديراً عظيماً، ودار في مجلسه حديث جميل، مليء بالحكمة والتجربة.

ما إن استقر بنا المجلس حتى بادرني هذا الرجل رحمه الله بكلمات فيها نقد شديد لجيلي، وتبجيل كبير لجيله، حيث قال: أنتم “يا التالين” لا شيء، أنتم “يالشباب” عندكم معرفة ، وعندكم علم، وعندكم شهادات، وعندكم علوم وأخبار، وعندكم كل شيء، لكنكم جيل رديء، لا يعتمد عليه او بعبارته: “ماش” “ماش”، فاستوضحت منه عما يقصده، فأعاد علي ذات الكلمات، فازددت تعجباً، وكررت عليه، طالباً المزيد من الإيضاح، ولكنه كان لا يزيد على تلك الكلمات مع تحريك يده يميناً ويساراً، دلالة على أن هذا الجيل الذي يعنيه “جيلي” لا يساوي ملأ يديه.!

ولكي أفهم عنه، فقد بدا لي أن أوجه إليه أسئلة عن جيله، هذا الجيل الذي هو عنده جيل فريد، وكأنه لا مثل له في العالمين، فقلت له: وأنتم ماذا لديكم، ماذا تعرفون، ما الذي ميزكم.؟، فقال لي: نحن جيل ما يعرف شيئاً، وأكدها مرة بعد مرة من أن جيله الذي يتكلم عنه لا يعرف شيئاً، وما عنده شيء من العلوم التي عندنا، إلا أنه كما قال: كالسيف، ومد يده مستقيمة إلى الأمام، دلالة على استقامتهم في أخلاق الرجال، ومروءة الأبطال، وكأنه يقول جيلنا رجال، وكلمة “رجل”، أو “رجال” عند العرب وصف موجز لشمائل عديدة من المروءات والشيم ومكارم الأخلاق.

أعدت عليه مراراً، كيف قلت يا عم، وماذا تعني من أنكم ما تعرفون أي شيء، قال: كما ذكرت لك، فنحن ما نعرف شيئاً كثيراً إلا ثلاثة أشياء فقط، قلت له ماهي؟ فقال: نعرف كلمة التوحيد “لا إله إلا الله”، ونعرف أنه إذا أذن اتجهنا إلى المسجد: نقيم “الصلاة” على وقتها، ونعرف أننا إذا أكلنا وشربنا مع الرجال “وفَيْنَا” لهم، فلم نخدع، ولم نمكر، ولم نكذب، ولم نخن، ولم نتكلم فيهم بكلام يسوؤهم من وراء ظهورهم، قلت له فإذا احتجتم زيادة على ذلك، قال: عندنا “المطوع” يقصد إمام الجامع، نذهب إليه ونسأله، واثقين غير مرتابين، ونقف عند ذلك.

الحقيقة أنه لم يسعني بعد هذه الكلمات إلا السكوت، والدعاء له، إذ اعتبرته درساً وأي درس في المروءة والأخلاق من هذا الرجل المجرب رحمه الله، إذ وصف الأزمة الضاربة أطنابها في جيل اليوم، وتدعو إلى مزيد من الاهتمام في بناء منظومة القيم والأخلاق على كل المستويات.

لم تمر إلا أيام حتى لقيت معالي الشيخ عبدالكريم الخضير حفظه الله، وقصصت عليه القصة، وذكرت له ما قال ذلك الرجل، فإذا معالي الشيخ يستلطف كلمات الرجل ويبتهج لها ويقول: ما شاء الله، هذا فقيه، عنده “توحيد”، وعنده “عبادة”، وعنده “أخلاق”، ويعرف قدر نفسه حين عرف لـ: “المرجعية العلمية” قدرها، قالها على البديهة دون تأمل أو تفكير، زاده الله توفيقاً وسداداً ونفع به وبعلمه، ومن ذلك اليوم وأنا أحدث بكلام ذاك الرجل رحمه الله، وبجواب معالي الشيخ حفظه الله، مفيداً ومستفيداً، وكنت دائماً أختم حديثي: بأنني لا أدري من أيهما أعجب من كلام هذا المجرب، أم من تكييف هذا العالم النحرير لها على ذلك الوجه، وبهذه الصيغة، وبتلك البداهة العجيبة.

ومما تتأكد العناية به هنا أن الأخلاق الإسلامية تبرز “صورة الإسلام المشرقة مع غير المسلمين في المعاملة الجميلة، فقد ورث المسلمون من تعاليم دينهم، وأخذوا من سير أسلافهم منظومة أخلاقية عالية فريدة، أبهرت القلوب التائهة، وخلبت النفوس الحائرة، حتى اهتدت بها إلى عظمة هذا الدين الحنيف، وسمو الحضارة الإسلامية ورقيها، فكم من أناس أكنوا للإسلام وأهله العداوة الشديدة، ثم انزاحت عن أعينهم الغشاوة، لما عاينوا التعاليم الإسلامية السامية بصدق وتجرد، وكم فتح الله من قلوب على يد المسلمين الأوائل العظماء النبلاء بأخلاقهم الرفيعة، فكانت أخلاقهم رسالة ماثلة ومشاعل مضيئة للبشرية”.

ومما ينبغي الإشارة إليه ههنا: أن القيم الأخلاقية في الإسلام قيم مطلقة وثابته، وليست أخلاقاً نسبية كما تقرره بعض الدراسات والتوجهات الغربية، فالغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، بل الوسيلة لها حكم الغاية، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فخلق العدل محمود في كل حال، مع الصديق والعدو، ومع المحالف والمخالف، ومع القريب والبعيد، وخلق الظلم مذموم في كل حال، ولا يصح في الإسلام أن يكون العدل محموداً مرة ومذموماً أخرى، وبهذا تتبين مكانة الأخلاق في الإسلام، ويتضح الفرق الكبير بين هدي الإسلام في الأخلاق وبين الفلسفة المادية المنحرفة.

وحديثنا هنا عن الأخلاق والمروءات: هو محاولة لبعث الاهتمام بها من جديد، وسد النقص الموجود فيها، وإعاقة التسارع الشديد نحو السقوط، متابعة للمجتمعات المنحطة، وليس المقصود أن الأخلاق قد انعدمت بالكلية، فالخير والحمدلله موجود، وهذه الأمة كالغيث، لا ينقطع خيرها، ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الأمة جمعاء بفقدها الخلق الحسن، إذ هذا من الأحكام الجائرة التي تشعر الناس باليأس، وليس هذا سبيل المؤمن المتبصر في دينه قال ﷺ:”إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم”، وإنما هو إشارة إلى النقص والضعف فحسب، حثاً لي ولأمثالي على الاهتمام بها، وسرعة معالجتها، وإلا فالعاقل يحسن الظن بربه، ولا يقطع الرجاء به، ويتفاءل في نظراته، ويعلم أن هذه الأمة وإن ضعفت لكنها لا تموت.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف سيء الأخلاق إلا أنت.

وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين.

 

تدوين: محمد بن علي الوشلي الحسني. 15 من ذي الحجة 1441هـ

Share on twitter
Share on telegram
Share on whatsapp
Share on facebook