﷽، الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من المعلوم لدى الكافة منزلة علماء الدين في أمة محمد ﷺ، فهم ورثة الأنبياء عليهم السلام، ومن إرث الأنبياء استمدوا مكانتهم، إذ هم حملة النور الذي يهدي الناس في دياجير الظلام، ما تعاقب الليل والنهار، حتى شبهوا بالشمس للدنيا، وبالغيث للأرض المقفرة، وبالعافية للناس، فالناس يحتاجون إليهم، وهم لا يحتاجون للناس.
والناس في مواقفهم من أهل العلم والعلماء طرفان ووسط: طـرفٌ فيـه مغالاة وإفراط: وهم المقلدون المتعصبون، وطرفٌ فيه جفاء وتفريـطٌ، وهم الأصاغر المتعالمون، الذين لا يلتفتون إلى أقوال العلماء، فضلاً أن يعرفوا لهم مكانتهم، فهم لا يرفعـون تجاهم رأساً، بل يقولون هم رجالٌ ونحن رجالٌ.
والأصل في دين الإسلام هو احترام العلماء، لأنهم المعبرون عن هذا الدين، الموقعون عن رب العالمين، وكذلك التأسي بهم، والتأدب معهم، والإفادة من علمهم، واتباعهم؛ لاسيما اذا اجتمعوا على كلمة سواء، او اجتمع جمهورهم، فلا ينبغي حينئذ مخالفتهم، خاصة في المسائل العامة والنوازل، أما إذا اختلفت أقوالهم فإن المسلم يتخير من أقوالهم ما ترجح بالدليل الصحيح، فإن لم يكن قادراً على تمييز الراجح، فينبغي أن يقلد منهم أعلمهم بالدليل، وأتقاهم للجليل ﷻ.
ومن هذا الباب أذكر قصة جرت لي، مع عالم جليل، وداعية فضيل، أحسبه كذلك ولا أزكيه رحمه الله، إذ فيها عبرة لي ولأمثالي من طلاب العلم، فيما نحن بصدده، وتسهم في اعادة مكانة العلماء في نفوسنا، وتعلي منزلتهم في الأمة، وتعزز دورهم في المجتمع، فبهم يقوى المجتمع ويتماسك، ويزيد تدينه، وتتعافى أخلاقه، فهم القدوات الذين بهم نقتدي ونتأسى، وبهم تجتمع الكلمة، ويتلاشى التفرق والخلاف، إذ بهم وبعلومهم وفتاويهم وأقوالهم ترد شبهات المنحرفين، وشهوات الغاوين.
منذ عقود وأنا أسمع عن عالم من علماء اليمن المعروفين، رحمه الله، أسمع عن علمه، وعن عقله، وعن كرمه، وعن شجاعته، وغيرته، وعن خدمته للناس، والسعي في حاجات الفقراء والمساكين، سمعت عن ذلك كله، وسمعت عن نشاطه العلمي والدعوي، وعن غيرته حين تنتهك محارم الله، فكنت أمني نفسي بزيارة اليمن لأمور كثيرة، منها لقيا هذا الداعية الفذ رحمه الله.
سنحت لي الفرصة ذات يوم بزيارة اليمن، إذ دعيت لحضور زواج جماعي فيها، فسافرت إليها لأول مرة، كان ذلك عام: 1429 من الهجرة تقريباً، ونزلت العاصمة صنعاء، ولم يكن يشغلني إلا رغبتي في زيارة مراكز العلم والدعوة، واللقاء بأهل العلم وحملة الأقلام، لا سيما هذا الداعية الشهير، فلما سألت عنه عصر اليوم التالي لزيارتي، قيل لي إنه في “مقياله”، و “المقيال”، أو “المقيل” مجلس تخزين وأكل “القات” عند أهل اليمن، خواصهم وعوامهم إلا ما رحم الله، فدهشت جداً، وقلت لهم: أمثل هذا الذي نسمع عنه، وعن مزاياه من عقود يفعل هذا؟، فتبسموا، ونظر بعضهم إلى بعض، وزادوني أسفاً حين قالوا: إنه أيضاً مولع بـ: “الشيشة” جداً، وأنه لا يمكن له الانفكاك عن هذين الشيئين، إذ هذه العادة استولت على المجتمع اليمني عامة، وابتلي بها كثير من المنتسبين إلى العلم والدعوة، وصار بعضهم أسارى لها.
الحقيقة أن نفسي تكدرت، وعزفت عن زيارته، وحاول بعضهم أن يخفف عني ما اعتراني من هم دون جدوى، وصار ينصح بأنني وإن جئت من بيئة عوفيت من هذا، إلا أنه ينبغي أن أرفق في التعامل مع مجتمع لا يرى بأساً فيم نحن نستعظمه، المهم أنني لم أحرص على زيارته، ولم تعد ضمن برنامجي المصاحب للدعوة الرئيسة، ثم رأيته في فعالياتهم العامة، فلم أحفل بوجوده، ولم أجد حماسة للذهاب إليه، أو السلام عليه، وإذا لقيته عفواً دون قصد سلمت عليه دون اهتمام، مثله مثل غيره ممن ليس لي بهم معرفة.رحمه الله.
قبل بضع سنين وإبان تعاوني مع برنامج “تواصل” علماء اليمن، التابع لوزارة الشؤون الإسلامية، مرض هذا العالم مرضاً شديداً، انتقل على إثره إلى رحمة الله، وهالني حجم الحزن الذي أصاب أهل العلم والدعوة في اليمن بوفاته، ووصلتني كلمات رثاء عظيمة قيلت فيه، وإذا المخالف له ينافس الموافق في رثائه، وتعداد مناقبه، وإذا بي أسمع ممن عرفه، وممن لم يعرفه فضائل ومآثر لا تكاد تجدها إلا عند النادر من الرجال، وكان أول مقال، وأجمل بيان وقعت عيني عليه: رثاء الشيخ الصديق أبي الحسن الماربي، ثم توالت الكتابات، فأصابني غم، وشعرت بخطأ موقفي، ولهجت بالدعاء له، ومع هذا سألت عددا من العلماء من مكونات علمية ودعوية مختلفة، فإذا كلمتهم عته تكاد تكون واحدة: علم ودين وعقل وغيرة ومروءة وأخلاق وتواضع، وسعي في حاجة المساكين كأنه أحدهم.
طواني الأسف من تفريطي في التعرف عليه، والإفادة مما لديه، وشعرت أن عاطفتي غلبتني، فنظرت إلى بعض القصور الذي لا يخلو منه بشر، وتركت دين الرجل، وعقله، ومروءته، لكن ذلك لم يعد يجدي شيئاً، إذ الرجل رحل رحمه الله، لكنه كان درساً وأي درس، أعاد إلى ذاكرتي بعض عبارات السلف حين يصف بعضهم بعضاً، فيقولوا: فلان عاقل لا يزيدون عليها، فالعقل والمروءة صنوان الدين، لا تكتمل الرجولة إلا بالجميع، وأن النظر بمبالغة إلى بعض النقص الذي قد يعتري أناساً في بيئات ما خطأ وأي خطأ، إذ هذا لا يقلل من ديانتهم، ولا فضلهم، ولا مروءتهم، فهذا عندهم، وفي بيئتهم لا يقدح في ديانة أحدهم فضلا عن مروءته، وإذا كان فلا بد فتبذل له النصيحة برفق، فما كان الرفق في شيء إلا زانة.
بعد وفاته رحمه الله، كان يزورني بين الحين والآخر علماء ودعاة من أهل اليمن، لا سيما بعد أن توسعت علاقتي بهم في برنامج “تواصل”، فأذكر لهم موقفي، وأنه فاتني الوقوف على نشاط ذلك الرجل، فضلاً عن التعرف على شهامته ومروءته، فلا يزيدونني إلا تأسفاً، إذ الجميع لا يتكلمون إلا عن نبيل من الرجال، وفريد من العلماء، وفذ من الدعاة، وقته وجهده وبيته وسيارته، وكل ما يملك كان مسخراً لنصرة الحق، ورعاية الفقير والمسكين، ورفع الظلم عن المظلومين، فأدنى رجل يمكنه أن يوقفه على قارعة الطريق؛ ليتحدث إليه عن حاجته، ويأخذ بيده إلى مكتب أعلى مسؤول؛ ليستخرج له حقه، دون تريث أو تأمل أو تحقيق، حتى شعرت بالفعل أنني أمام رجل مميز من العقلاء، وجبل ضخم من الرجال، وما عسى أن يضير الجبل شجيرات صغيرات من الحنظل على جنباته، لا يراها إلا من يبحث بعينيين تتفحص الضار من الأشياء، فرحمه الله ما أنبله، وما أعظم نفسه، وما أعلى همته، وما أقوى عزيمته، وما أسخاه على نفسه وماله وصحته: خدمة لللعلم والدعوة والمجتمع، وغفر له ولي، ولجميع علماء الأمة ودعاتها: الأحياء منهم والميتين إنه خير مسؤول.
حقاً فاتني الرجل، وفعلاً فاتتني أخلاقه ومروءته، بل فاتني عقله وخبرته، لكني من فضل الله لم أسيء إليه، ولم أتلفظ ضده بكلمة تؤذيه، لا سراً ولا جهراً، معاذ الله أن أفعل ذلك، فذاك ليس من أخلاقي، ولا من شيمتي، إلا أني عزفت عن التعرف عليه فحسب، بعد ما رأيت ما يقدح في مروءته من وجهة نظري القاصرة، حيث أني كنت أمني نفسي باللقاء به، حين سمعت من فضائله ومناقبه الكثير، وحين أدركت أن ذلك كان مني غير صائب، تحدثت عنه، ونشرت شيئاً من أخباره، مشيداً به، وبمواقفه، وهذا ما ينبغي أن يفعله المسلم، تجاه أخيه المسلم، فكيف برجل نبيل معدود في كبار أهل العلم والدعوة والإحتساب.رحمه الله.
وأيضا الذي دعاني هنا لعرض هذه القصة هو ما سبق الإشارة إليه من أهمية احترام العلماء أولاً، ثم تعويد النفس على ثقافة الاعتذار ثانياً، إذ ثقافة الإعتذار عن الناس غائبة، مع أنها من صفات الرجولة والمروءة، وكذلك تعليم النفس التعبير بشجاعة عن الموقف الصحيح حال ما يتبين للإنسان خطأ نفسه، والأهم من ذلك إشاعة المعايير الصحيحة في تقويم الرجال، والتأني في الحكم عليهم، وعدم بخسهم حقوقهم، إذ هذا من العقل والمروءة، فضلا عن كونه من الدين.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة نابتة من المتعالمين لا هم لها إلا الطعن في العلماء والدعاة، والقدح فيهم، والكلام في أعراضهم من دون دليل ولا بينة، ويتحينون كل فرصة لتصيد أخطائهم؛ إما لإسقاطهم كلياً، أو توسيع الفجوة بينهم وبين عامة الناس، حتى لا يأخذوا عنهم، ولا يصدروا عن أقوالهم ، إذ القدح في العلماء لا يتناول أشخاصهم فحسب، بل يتعدى ذلك للعلم الذي حملوه من أجل تعليم الناس الخير، فبمن يثق الناس إذا انتقص العالم أو أهين، وأيضاً إذا زالت ثقة الناس بهم فعمن يتلقون دينهم، وقد رأينا بكل أسف أناساً يطلبون العلم على مشايخ، ويتعلمون منهم، ثم لا يتورعون بعد ذلك عن الكلام فيهم، والتقليل من علمهم ونحو ذلك، وهؤلاء لم يرعوا حرمة العلم، ولا أخلاق الرجال، ولا مروءات العقلاء. نسأل الله العفو والعافية.
والأمة أحوج ما تكون اليوم لعلمائها، ولن يكون لهم دورهم الريادي في المجتمع، إلا إذا حفظت مكانتهم، واجتمعت كلمتهم، وما “يدور في الساحة اليوم من فوضى الاجتهاد عند بعض المتعالمين، وفوضى الفتيا، والقول على الله بغير علم، والتلاعب بالحلال والحرام حسب الأهواء، مع وجود طوفان هائج من العولمة والتغريب”، إلا دليل ظاهر لما ذكرناه، من غياب العلماء الربانيين، فغيابهم أخلى الساحة لغيرهم من الرويبضات، وأنصاف المتعلمين.
وأيضاً سبق القول أنه ليس من شرط العالم عدم الخطأ أو الزلل، فما من عالم إلا وله أخطاء أو زلات وغرائب، إلا أن الدين والعقل والمروءة والأدب، كلها تقضي بأن تطوى تلك الزلات، وليس من المروءة ملاحقة تلك الأخطاء وتتبعها لتجميعها من أجل التثريب بها على العالم، ومن باب أولى ألا تتبع طالما كانت خطأ أو زلة من الزلات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:”ليس لأحد أن يتبع عورات العلماء، ولا له أن يتكلم فيهم، فمن عدل عن الحجة إلى الظن والهوى فهو ظالم، وكذلك كل من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباده فهو من أولياء الله”.
ويحسن بي أن أذكر أننا بفضل الله عشنا في مجتمع يقدر العلماء ولا يقدسهم، ويعدهم المرجع العلمي والدعوي الذي يرفع الخلاف، ولا نقبل الكلام فيهم أو عنهم، إلا أن العلماء الذين كان لهم عندنا المقام الأكبر، والحظ الأوفر، هم أمثال سماحة الوالد الإمام ابن باز رحمه الله، فقد كانوا نماذج فريدة، رأينا في شخصياتهم بقايا السلف تمشي على الأرض، كأننا نقرأ في سير أعلام النبلاء وأمثاله تحكي سير العظماء، لكن هذا الأنموذج القدوة جعلنا نتخيل أن كل عالم لا بد أن يكون مثلهم، فما إن نرى عالماً ليس على منوالهم حتى تهضمه نفوسنا، ونكاد نعزف عن اللقاء به، فضلا عن الإنتفاع منه، ولهذا ينبغي أن يعلم أن العلماء ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم مراتب ودرجات، وكلهم محل إحترام وتقدير برغم ذلك التفاوت، إذ التفاوت لا يؤثر في منزلتهم ومكانتهم، وإنما يؤثر في تقديم بعضهم على بعض عند اختلاف أقوالهم.
ولا شك أن وجود تلك النماذج مما يعين على الاقتداء، ويشجع على طلب العلم، ويحفز على النشاط في الدعوة والعمل الخيري، لكنهم آحاد نادرون، فأنى نجد أمثالهم في هذا الزمان العصيب، ولذا فيحسن تذكير أنفسنا وغيرنا أن في البقية خيراً وأي خير، والنقص فيهم إن وجد، لا يساوي شيئاً أمام عيوبنا ونقصنا وقصورنا، وأن الإحاطة بهم، واحترامهم، والتأدب معهم، والصدور عنهم واجب شرعي، نتقرب إلى الله ﷻ بالتعبد به، ونرجو ثوابه وأجره وعقباه في الدنيا والآخرة.
فال ابن القيم رحمه الله:”إن الله – سبحانه وتعالى – جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم أكلها، وأباح صيد الكلب المعلم، وهذا أيضا من شرف العلماء، لأنه لا يباح إلا صيد الكلب العالم، وأما الكلب الجاهل فلا يحل أكل صيده، فدل على شرف العلم وفضله”.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله :”عليك أيها الطالب التحلي برعاية حرمة الشيخ، فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح، والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل”.
قال الصَّنعاني:”لئيمُ الطلبةِ، وخبيثُ الحُضَّار عند العالِم: مُتتبعُ العثرات، وكاشفُ العورات، ودافنُ الحسنات، وما أكثر هذا النوع – لا كثَّرهم الله – فإنهم الذين أفسدوا معالمَ العلم، وبئس الجزاءُ أن يُجازيَ التلميذُ شيوخَه بإشاعة هَفواتهم وزلاتهم، فإنه لابد لكل جوادٍ مِن كبوة ولكل صارمٍ من نَبْوَة:
ومَن ذا الذي تُرضَى سجاياهُ كلُّهاكفىٰ المرءَ نُبلاً أن تُـعَـدَّ مَـعايِـبُـه،
فخير الناس من أشاع الخير عن العلماء وأذاعه، ودافع عنهم إن سمع قادحًا فيهم”.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا بمنه وفضله لما يرضي ربنا سبحانه، وأن يغفر لنا الزلل في القول والعمل، وأن يغفر لمشايخنا وعلمائنا وإخواننا الذين سبقونا إلى ربهم، وأن يوفق علماءنا ودعاتنا الأحياء للقيام بواجبهم، وأن يوفق الرعاة والدعاة لإقامة دين الله الحق، ويجمع كلمتهم على الحق، ويوفق مسيرتهم في إصلاح الخلق، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين.
تدوين: محمد بن علي الوشلي الحسني. 6 ذي الحجة 1441هـ