23 يناير، 2025 2:15 ص

التلازم بين العلم و التربية

28 أكتوبر، 2022

الشيخ محمد الوشلي

الحمدلله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسولنا الكريم ، صلى الله عليه وسلم.

إعتنى المسلمون بالتربية والتزكية منذ سطوع نور الإسلام ببعثة نبينا محمد ﷺ، اذ انتهج ﷺ التربية وسيلة لإعداد الرجال، ولا غرو فقد امتن الله ﷻ على أمة الإسلام بهذا النبي الكريم، الذي كانت مهماته الرئيسة في بعثته: تلاوة القرآن، وتزكية النفوس، وتعليم الناس الخير.

ولا شك أن العرب عامة، وفِي أم القرى خاصة، قد هيأهم الله نفسيا وعقليا لاستقبال هذا الحدث العظيم – بعثة النبي ﷺ – إليهم خاصة، والى الناس عامة ، فكانوا كما أشار بعض الذين كتبوا في صفاتهم وخصائصهم: أهل عقول وفطنة، ونفوس أبية، تتصف بغالب صفات الكمال حتى كانت الشيم والمروءات التي هي صفات النفوس العالية من مفاخرهم، التي يفاخرون بها غيرهم، ويتعالون بها عليهم، ويتعاملون بها في أنفسهم، ولذا قال ﷺ مقرا لما اتصفوا به من مكارم:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخل”.

ولما جبلت عليه هذه النفوس الكريمة من صفات، فقد كان بعضهم لا يحتاج الى كثير جدال، ولا إلى كبير وقت لاستقبال الدين الجديد، بل كانوا سرعان ما يمتلئوا به، ثم ينطلقوا فوراً للدعوة إليه، حتى وصفوا بأن إيمانهم كان في قلوبهم كالجبال، وأن أحدهم كان يؤتى الإيمان قبل أن يؤتى القرآن.

ومع هذا فقد تعاهدهم ﷺ بمزيد من العناية، فقد كان يقضي معهم في بداية البعثة وقتاً طويلاً، اذ كانوا يجتمعون في دار ابن أبي الأرقم يتلقون منه الإيمان والقرآن معا، فصلى الله عليه، ورضي الله عن صحابته اجمعين.

واستمرت هذه العناية في مكة حوالي ثلاثة عشر عاما من الإعداد والتهيئة والتربية؛ لحملة رسالة الإسلام، التي يحتاج حملها لتضحيات جسام من الوقت والمال ثم النفس، فقد رباهم ﷺ على عينه؛ ليكونوا هم الجيل القرآني الفريد؛ الذي لن يأتي بعده جيل ينافسه فيما اتصف به من خلال وصفات، وما بذله من تضحيات – وإن وجد في كل زمان فرد او أفراد يحاولون أن يُنافسوا ذلك الجيل – فبقي الإسلام بذلك الجيل، وتلك القدوات، ومن تبعهم: ناصعاً مرفوعاً في كل عصر، وفِي كل مصر، لكنها لا ولن تبلغ شأو ذلك الجيل في جملته أبدا.

واستمرت هذه التربية وتلك التزكية زمن الخلفاء الراشدين، وان كانت قد ضعفت بغيابه ﷺ من جهة، وانسياح الجيل القرآني الذي رباه ﷺ في الأرض من جهة ثانية، ولكثرة الداخلين في الإسلام مع تعدد ثقافاتهم ولغاتهم من جهة ثالثة، إلا أن التابعين وتابعيهم ضربوا أروع الأمثلة في التربية والتعليم، وما يزال الناس يقرأون في تراجم التابعين وتابعيهم من الخصال الحميدة ما يكاد يباري الجيل الأول، لولا أن ذلك الجيل قد تميز بصحبته وخدمته له ﷺ، ولأنه قد تهيأ لهم كجيل ما لم يتهيأ لأولئك.

ثم مرت مرحلة التربية والتزكية بمراحل تشبه المراحل الذي مر بها التعليم الشرعي بعامة: نشاطاً وضعفاً وسلامةً وتشوهاً، وتتعاقبت جهود التجديد هنا وهناك؛ لإحياء التربية، كما هو الحال الذي مرت به جهود تجديد التوحيد – سواء بسواء – مما لصق به من تشوهات، وغير ذلك من العلوم المرتبطة بالإسلام .

ولسنا هنا بصدد الحديث عن مراحل القوة التي مرت بالتعليم والتربية في القرون المتعاقبة، اذ مهمتنا هو إبراز ما كانت تحظى به من اهتمام، وأنها كانت قرينة العلم والفقه، ثم مرت بذلك الانفصام النكد في القرون المتأخرة، فتحولت التربية عند غالب علماء المسلمين الى آداب وأخلاق يسيرة فحسب، يؤدب بها العالم تلاميذه كشئ لا بد منه للمتعلمين، او يقرأ لهم فيها كتاب، أو يعرفهم ببعض تلك الكتب، دون أن يكون لها نصيب من عنايته.

وحين ضعفت التربية على هذا النحو، لم تجد من العلماء من يتخصص فيها علماً وممارسة، والعناية بها تأليفاً ومدارسةً الا نادراً.

وأصبحت التربية والتزكية لا توجد إلا في محاضن الصوفية أو بعض مجالس الإقراء القرآني، بينما جفت للأسف أو ضعفت في مجالس العلم الأخرى.

وحين تخلى العلماء الكبار وتصدى لها الصغار ، خالطتها البدع والمنكرات حتى أمسى في الأمة جيلان: جيل علم لا يكترث بالتربية الا قليلا، وجيل تربية وتزكية لا يكترث بالعلم الا قليلا.

ولأن العلم والتربية تلازما في القرون المفضلة، فيجب على أهل العلم والدعوة إعادة هذا الارتباط، بتخصيص شيئ من الإهتمام في دروس العلم حتى لا يبقى العلم علماً نظرياً لا روح فيه ولا تطبيق، كما يجب أن يكون العلم بفقه الكتاب والسنة أساساً تتلقاه أجيال الشباب في محاضن التربية، حتى لا يبقى هذا الفصام بينهما، وتكون التربية بوسائل بعيدة عن الوحيين وفقهما، ونحيي بذلك قاعدة السلف: العلم النافع والعمل الصالح، فلا يكون العلم نافعاً إلا إذا أورث العمل الصالح، ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا تأسس على العلم الصحيح من كتاب وسنة على فهم القرون المفضلة، وبهذا تستنير الدعوة، وتنهض الأمة، وتزكوا الأجيال وينتصر الإسلام.

هذه إشارة عاجلة إلى أهمية العلم الشرعي واهمية اقتران التربية به، وتلازمها معه، حتى يتربى الجيل الجديد، على ما تربى الجيد القديم.

اللهم ردنا إلى دينك الحق رداً جميلاً، وهيء لنا من أمرنا رشداً، اللهم آمين.والحمدلله رب العالمين..وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

Share on twitter
Share on telegram
Share on whatsapp
Share on facebook